فصل: ارتباط علم المناسبة بأسباب النزول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.ارتباط علم المناسبة بأسباب النزول:

ويرتبط علم المناسبة ارتباطا واضحا بأسباب نزول القرآن، وبالبيئة التي نزل بها القرآن، وبطبيعة المخاطبين بالخطاب القرآني، ولابد من معرفة المكي والمدني من الآيات، لأن علم المناسبة يتطلب الإحاطة بكل ما يتعلق بالخطاب.
ولا بد من توفر شروط أهمها:
- معرفة جيدة بالقرآن، لأن ذلك هو الأساس في إدراك أوجه الترابط بين الآيات والسور.
- معرفة بأساليب اللغة العربية، لأن القرآن نزل بلغة العرب، وراعى ما كان سائدا عندهم من أوجه البيان والتعبير.
- معرفة السيرة النبوية، لأنها هي الأساس في تفسير القرآن، وفي فهم ما ورد فيه من أحكام، وما اشتمل عليه من معان وتوجيهات.
- قدرة ذاتية على التماس أوجه التشابه والترابط والتناسب بين الآيات، وهذه القدرة تحتاج لاستعداد ذاتي.
وفسر السيوطي في الإتقان والزركشي في البرهان معنى المناسبة بين الآيات بأن ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلم بعضه على بعض على وجه التفسير والتأكيد، وإما ألا يكون ظاهر الارتباط، فعندئذ لا يخلو الأمر من وجود عطف مؤكد لوجود جهة جامعة أو لا يكون هناك عطف، وعندئذ لابد من البحث عن قرائن معنوية تؤكد، وتعلم بوجود رابط بين الآيات، ومن أهم القرائن ما يلي:
أولا: التنظير: لأن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء.
ثانيا: المضادة: وهو اتباع آية الحديث عن المؤمنين بآية تصف حالة الكافرين، لبيان أوجه التضاد، وهو أسلوب واضح في التشويق.
ثالثا: الاستطراد: والحكمة منه الانتقال من ذكر حال إلى بيان حكم أو حكمة مناسبة للمقام، ثم العودة إلى الموضوع الأول، وهذا الاستطراد يؤدي غايته في بيان ما قصد إليه القرآن من الإشارة إلى حكمة أو عبرة أو لفت نظر إلى مقاربة أو إقرار حقيقة أو تذكير بأمر.
وأفاض العلماء في ذكر أمثلة من القرآن الكريم، وبينوا وجه المناسبة في اقتران الآيات والسور، ملتمسين استكشاف أوجه التشابه والتقارب، باحثين عن القرائن التي يمكن أن تفيدهم في معرفة ذلك.
ولعل كلمة الإمام الرازي هي أوضح كلمة وأدلها تعبيرا عن عظمة علم المناسبة، وإن (أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط).

.الفصل العاشر: علم الناسخ والمنسوخ:

اهتم العلماء بدراسة النسخ في القرآن الكريم، وصنفوا فيه، وأفردوا له مؤلفات خاصة، وكشفوا النقاب عن مواطنه، وأزالوا الشبهات التي أحيطت بموضوع النسخ، ومن أبرز من ألف في النسخ كل من ابن الجوزي الفقيه الحنبلي المتوفى سنة 597 هـ في كتابه: (أخبار الرسوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ) وهو مطبوع مع كتاب مراتب المدلسين لابن حجر، وأبي جعفر النحاس محمد بن أحمد المرادي المتوفى سنة 338 هـ في كتابه: (الناسخ والمنسوخ)، وهو مطبوع بهامش كتاب أسباب النزول للواحدي، ومكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 313 هـ في كتابه: (الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه)، وكتابه: (الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه)، وكتب في الناسخ والمنسوخ كل من: قتادة بن دعامة من تابعي البصرة، وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي داود السجستاني، وأبي بكر بن الأنباري وأبي بكر بن العربي المعافري.
واعتبر علماء القرآن علم الناسخ والمنسوخ من أهم علوم القرآن والتفسير، وهو عمدة العلوم، لأنه لا يمكن تفسير القرآن إلا بعد معرفة علم الناسخ والمنسوخ، وهو العلم الذي يبين مراحل نزول التشريع وتدرجه ويوضح منهج التشريع في إقرار الأحكام، وحكمته في خطاب المكلفين.
ونظرا لأهميته، فقد انصرف اهتمام علماء التفسير لدراسة هذا العلم، وناقشوا فكرة النسخ في القرآن، وأوضحوا مواطن النسخ، ودرسوا الروايات التي أشارت إلى وجود النسخ.

.معنى النسخ:

يطلق النسخ في اللغة على معنيين:
المعنى الأول: إزالة الشيء وإعدامه ومنه قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ}. [الحج: 52] ويفيد معنى الإبطال، يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته، ونسخت هذا الكلام أي أبطلته ومعنى الإزالة واضح في النسخ.
المعنى الثاني: النقل والتبديل والتحويل: يقال: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه حاكيا لفظه وخطه، ويأتي بمعنى التبديل: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ}. [النحل: 110] واستعملت كلمة النسخ في المصطلح الفقهي بمعنى التحويل، كتناسخ المواريث أي تحويل الميراث من واحد إلى آخر.
وجاءت لفظة (النسخ) في الاصطلاح بمعنى: (رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي) وكلمة (الرفع) دقيقة المعنى، لأنها تعبر عن المعنى الحقيقي لمعنى النسخ والغاية منه، وكلمة الرفع أدق من كلمة الإزالة والتبديل والنقل والتحويل، فالنسخ هو رفع حكم شرعي بدليل، وكلمة النسخ أدق من كل كلمة تفسيرية، إذ لا يمكن لأية كلمة أن تفيد المعنى المطلوب، وعلم الناسخ والمنسوخ هو العلم الذي يبحث في ظاهرة رفع الأحكام الشرعية السابقة بأحكام شرعية لا حقة.
وهنا نتوقف قليلا عند مفهوم النسخ، فقد يكون النسخ الظاهر بيانا لا حقا للحكم الشرعي الأول، وبخاصة في حالات عدم وجود تعارض حقيقي في الأحكام المتعاقبة المتلاحقة ولا مجال للقول بوجود النسخ مع وجود البيان المتمم للحكم، إذ لا يمكن القول بوجود نسخ في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ}، عن طريق اصطناع فصل بين أجزاء الآية، فالكلام متصل ومتكافل وواضح، ولا يتضح الحكم بعد أن يكتمل الخطاب.
ولا يمكن تصور النسخ إلا في حالات محدودة، حيث يبرز النسخ كحقيقة لا يمكن إنكارها، كما في حالات نسخ التلاوة، وهذا نسخ حقيقي، لا مجال لإنكاره، وهناك نسخ حكم سابق بحكم لاحق، إذا تعذر الجمع بين الحكمين، ولا أظن أن توسيع دائرة النسخ في القرآن من الأمور المطلوبة، فالأصل أن يكون كل ما في القرآن خطابا للمكلفين، إلا ما ثبت نسخ حكمه.
ولا فائدة في مناقشة ما أثاره العلماء في موضوع النسخ من استحالة البداء على الله، لأنه يتضمن ظهورا بعد خفاء وتغييرا في الرأي، وذلك جدل غير مفيد، وأمر النسخ واضح الحكمة، جلي الفائدة، وهو منهج تشريعي، لابد منه، لمواكبة سير الدعوة، وإقرار أحكام تحقق المصلحة، وتنسجم مع المرحلة الزمنية، وإذا سلمنا بمبدإ الإيمان بالله، وبما جاء من عند الله وجدنا أنفسنا في حلّ من تفسير ظاهرة النسخ وكثير من الظواهر المتعلقة بالرسالة والقرآن تفسيرا عقليا يخل في معظم الأحيان بقدسية المعاني الإيمانية، ويجعل المؤمن في موقف التساؤل والوصاية على ما لا يجوز أن يتدخل فيه أو يناقشه من أمور دينه وعقيدته.
إن منهجا جديدا في دراسات الفكر الإسلامي يعتمد على طرح ذلك المنهج الجدلي المكرر والمحفوظ جدير بأن يسهم في تطور فكرنا الإسلامي، فلا نناقش فيه ما قاله اليهود والنصارى، وكأنهم أوصياء على فكرنا، ولا نضيع وقتنا في جدل مع علماء الكلام في قضايا تجاوزها منهج السلف ولم يقف عندها، لأن الحوار فيها لا يؤدي إلى نتيجة، وربما يثير قضايا جديدة، تشغل العلماء بما هو غير مفيد من أنواع الحوار.

.أنواع النسخ:

قسم علماء القرآن النسخ إلى أنواع:
النوع الأول: ما نسخت تلاوته وحكمه معا:
قال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى}. (ولا يعرف منها اليوم شيء).
وأورد السيوطي ما روته عائشة: «كان فيما أنزل: عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس رضعات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن» رواه الشيخان، وقد تكلموا في قولها: وهي مما يقرأ: (مما يفيد بقاء التلاوة، وأجيب بأن المراد أن النسخ تم قبل الوفاة، ولم يبلغ كل الناس بذلك، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الناس يقرؤها).
النوع الثاني: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته:
وهذا النوع هو الذي وقع الاهتمام به، وألّفت المؤلفات فيه، وانصرف إليه العلماء، وكتب ابن العربي المعافري كتابه: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم في هذا النوع من النسخ، نظرا لاختلاف مدلوله، وتعدد الآراء فيه، وسبب الاختلاف في هذا النوع من النسخ أن القراءة باقية، ولم تنسخ، فتوسع العلماء في فهم معنى النسخ وشموله، والتبس عليهم الأمر بين التخصيص والنسخ، فاعتبروا التخصيص نسخا، وهذا تجاوز.
ومما ذهب إليه بعض العلماء في هذا المجال أنهم اعتبروا آيات القتال ناسخة لكل الآيات الواردة في القرآن التي تتضمن العفو والصفح والصبر، وأن تلك الآيات الداعية إلى قتال المشركين عامة وشاملة، فلا مجال بعدها للمهادنة أو المجادلة أو الصبر أو الصفح أو الإمهال، وذكر ابن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ أكثر من سبعين آية منسوخة بآيات القتال، كما ذكر الآيات التي نسخ حكمها وبقيت تلاوتها.
وأورد ابن العربي الآيات التي نسخ حكمها، وبقيت تلاوتها، ومن هذه الآيات ما يلي:
الآية الأولى: قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}، [البقرة: 180].
قال ابن العربي في هذه الآية:
«قال علماؤنا وابن القاسم عن مالك: هذه الآية نزلت قبل الفرائض ثم أنزل الله الفرائض في المواريث، فنسخت الوصية للوالدين ولكل وارث إلا أن تأذن الورثة في شيء فيجوز» واتفق الكل على أنها منسوخة واختلفوا في ناسخها على أربعة أقوال:
الأول: إن ناسخها آية المواريث.
الثاني: إن ناسخها قوله تعالى: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً}، [النساء: 8].
الثالث: إنه نسخها أن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث.
الرابع: إنه نسخها بإجماع الأمة على إبطالها وأن الوصية لا تجوز لأحد ممن سمى الله له فرضا معروفا أو جعل النبي صلى الله عليه وسلم له حقا مفروضا.
وقد ناقش ابن العربي هذه الأقوال الأربعة وردها، ولم يعتبرها ناسخة للآية الأولى، فآية المواريث لا تتعارض مع آية الوصية، ومن شروط النسخ التعارض، ولا يعرف المتقدم والمتأخر من الآيتين، وآية القسمة لا تصلح لنسخ آية الوصية لعدم التعارض أيضا، ولا يصلح الخبر: «لا وصية لوارث» لنسخ الآية، لأن الآية أقوى من هذا الخبر من حيث الصحة، ولابد في النسخ من التماثل بين الناسخ والمنسوخ، أما الإجماع فلا يصلح لنسخ الآية، لأن الإجماع لا ينسخ أصلا لأنه ينعقد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين الإجماع الذي ينعقد على نظر، والإجماع الذي ينعقد على أثر، فما انعقد على نظر لا يصلح للنسخ، وما انعقد على أثر جاز أن يكون ناسخا، ويكون الناسخ الخبر الذي انبنى عليه الإجماع، وعندئذ تكون الأمة قد أجمعت على إسقاط الوصية للوالدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث».
الآية الثانية: قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ}، [البقرة: 184] وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، [البقرة: 185].
وأورد ابن العربي الأقوال التي وردت في بيان هذه الآية، وأقوال الفقهاء في حكم الإطعام، فالصوم واجب على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام على من لم يطق الصيام إذا فطر من كبر.
الآية الثالثة: قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ}، إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، [البقرة: 187]. وهذه الآية ناسخة للآية التي قبلها وهي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ونقل ابن العربي عن المفسرين أن المراد بالآية نسخ ما كان عليه العمل لدى الأمم السابقة، من تحريم الوطء بعد النوم في ليلة الصيام، وكان صوم المسلمين في بداية الأمر كصوم الأمم السابقة، ثم نسخ هذا الحكم، وأصبح الوطء جائزا خلال الليل، وكان بعض الصحابة لا يصبر على الامتناع عن الوطء: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، فرخص الله لهم في هذا الأمر وأباح لهم ما كان محرما عليهم: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}.
وهذه أمثلة من الآيات التي نسخ حكمها وبقيت تلاوتها، واعتمدنا في ذلك على ما كتبه ابن العربي المعافري في كتابه الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وهو كتاب قيم عرض فيه للنسخ في القرآن، وذكر الآيات المنسوخة في كل سورة في سور القرآن.
وتساءل السيوطي عن الحكم من نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وأجاب من وجهين:
- أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
- والثاني: أن النسخ غالبا ما يكون لتخفيف، فبقيت التلاوة تذكيرا للنعمة ورفع المشقة.
النوع الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه:
أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبيّ بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما، وقال عمر: «لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي» رواه البخاري في صحيحه معلقا، ولو كانت التلاوة باقية ولم تنسخ لبادر عمر إلى كتابتها في المصحف، ولم يعرج على مقال الناس.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري: إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني أحفظ منها: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب».
وهنا طرح الزركشي في البرهان سؤالا وهو أن يقال:
(ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها، ونقل جواب ابن الجوزي صاحب كتاب فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن على هذا التساؤل بقوله: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي).
ومما لا شك فيه أن النسخ وقع في القرآن الكريم، والأدلة النقلية تؤكد وقوع النسخ، والنسخ دليل صحة، وهو ظاهرة عظيمة الدلالة على عظمة منهج الإسلام في التشريع، إلا أنه يجب أن تحدد مواطن النسخ في القرآن، فيما لا يمكن إيجاد طريقة للجمع بين الناسخ والمنسوخ، وبالرغم مما كتب في موضوع النسخ في القرآن، فإن الأمر يحتاج إلى تدقيق، فمعظم ما كتب في النسخ لا يدل على وجود النسخ فيه، ولا تصادم ولا تناقض فيما ورد من آيات ذات دلالات متباعدة، ولكل نص دلالته وحكمه وحكمته.
ولا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، لأن النسخ رفع حكم شرعي بدليل، والحكم لا يتصور إلا في مجال الأمر والنهي، أما الأخبار فلا يتصور النسخ فيها، لانعدام الفائدة من نسخها، ما لم يتضمن الخبر حكما، وفي هذه الحالة ينسخ الحكم وليس الخبر، وبناء على هذه القاعدة لا يتصور وقوع النسخ في كثير من السور، التي جاءت مبينة لأركان العقيدة مدافعة عن فكرة الإيمان، مجادلة المشركين فيما أخذوا أنفسهم به من عبادة الأصنام، وهناك أكثر من أربعين سورة لم يقع فيها ناسخ أو منسوخ، ومعظمها السور القصيرة التي لا تتضمن أمرا أو نهيا، ووقع النسخ كثيرا في السور المدنية الطويلة، لأن هذه السور جاءت بالأمر والنهي.
وتوسع بعض العلماء في مفهوم النسخ، وتفاوتت آراؤهم حول عدد آيات النسخ في القرآن، وقام بعض العلماء المعاصرين الذين درسوا موضوع النسخ في القرآن الكريم بإحصاءات بيانية أوضحوا فيها ما قاله العلماء في آيات النسخ، فالمكثرون أدخلوا في الناسخ والمنسوخ ما ليس منه.